المادة    
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى:
[والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟ فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن، وليس إذا أخطأ يقال: إنه كافر، قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها، والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ولهذا ذم السلف أهل الأهواء، وذكروا أن آخر أمرهم السيف، وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً)].
الشرح:
أي: أنها ستبحث في مباحث الإيمان التي ستأتي إن شاء الله وبيان متى يحكم على الإنسان بالكفر ومتى لا يحكم عليه، إلى آخر ذلك، والمقصود هنا ونحن نتكلم عن النهي عن الجدال أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا ألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ))[العنكبوت:46] وفي آية أخرى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125] وكما أشرنا في أول المبحث أن المنهي عنه ليس الجدل نفسه، إنما المنهي عنه هو الجدل الباطل أو المذموم.. الجدل بغير الحق.. الجدل بغير دليل.. بغير علم.. بغير برهان.. الجدل فيما نهينا أن نتخاصم فيه، ولذلك قال المصنف سابقاً: "نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق" هذا بخلاف النصيحة، فلذلك هذا ليس من أساليب الدعوة الصحيحة أن تبتدئ أحداً بالجدال، بل حتى الجدال متى ما احتيج إليه وكان شرعياً ولابد منه فلابد له من ضوابط، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يصف الحكمة بشيء في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) يقول ابن القيم رحمه الله: "الحكمة هي فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي". أي: وضع الشيء في موضعه كيفية وزماناً ومكاناً وأسلوباً.
وقال الله بعد ذلك: (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) فوصف الموعظة بأنها حسنة، وهذا معنى معلوم ومعروف كمواعظ النبي صلى الله عليه وسلم ومواعظ العلماء، ثم قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولم يقل: المجادلة الحسنة، بل قال: (بالتي هي أحسن). وهذه العبارة أدق في الشروط؛ لاحتمال أن الإنسان يخطئ، لما يدخل الجدال من الهوى ومن حظوظ النفس.
ومما يلمس وللأسف هذه الأيام ما يفعله طلبة العلم عندما يرد بعضهم على بعض وهم يتناقشون في بعض المسائل التي لا تحتمل الرد، فيبلغون بالجدل مبلغاً غير محمود، بينما في الأصل لو قام أحدهم بالتنبيه على صاحب الكتاب أو الفتوى لربما فهمك وتراجع إن كان مخطئاً، لكن إذا نشر الرد واشتهر في الآفاق فإن صاحبه يصعب عليه أن يعترف بخطئه أمام الملأ، وهنا يكون المزلق، وذاك أيضاً يأخذه الغرور والإعجاب بأنه قد رد، وهذا من علامات أهل البدع، فتجده إذا علم مسألة يسارع فيخطئ العلماء فيها، حتى لو كان رأيه فيها مرجوحاً، فيسارع بتخطئة العلماء ويشهر ذلك وينشره، ومثل هذا يخشى عليه وعلى علمه، والجرأة على العلماء من سنة الخوارج قديماً كما تجرءوا على ابن عباس وعلي رضي الله عنهما وعلى غيرهما، والمقصود أن الله أمرنا تكون مناظرتنا لأهل الكتاب بالتي هي أحسن، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟!
  1. شيخ الإسلام وأمانته في النقل وحسن مجادلته

    يقول المصنف: "فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن" فالمجادلة أو المناظرة لا تكون مع أهل القبلة إلا بالتي هي أحسن حتى وإن أخطئوا، ومن العجب ما نجده في مناقشة علماء السلف وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه ما من فرقة ولا طائفة إلا وتعرض لها، إما أفاض وأكثر في ذلك حتى يكتب المجلدات، أو عرضاً في مواضع من كتبه، فترى الأمانة في النقل، حتى إن أكبر أعداء المنهج السلفي مثل الدكتور علي سالم النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي وهو يتكلم عن التهم التي اتهم بها شيخ الإسلام وأنه كان من الكرامية وأنه كان مجسماً وأنه كذا، تجده عندما يتكلم عن بعض النسخ أو بعض الكتب يقول: هذا ما ذكره ابن تيمية وهو أمين في نقله. فإذا وقعت على كتاب لـشيخ الإسلام ابن تيمية ينقل فيه عن كتاب آخر -وهذا كثير عنده سواء في نقل الأحاديث أو غيره، ولكن قد ينقل ويطيل من كتب أهل البدع أو من كتب أهل السنة أحياناً- فتجد أنك تستطيع أن تقابل ما كتبه شيخ الإسلام إذا كانت النسخة واضحة وجيدة على نسخ أخرى معتمدة من الكتب التي نقل منها، وكأنها نسخة أخرى؛ لما فيها من الدقة والأمانة في النقل، بينما إذا أردت -مثلاً- أن تنقل عن أبي حامد الغزالي في الإحياء وهو الكتاب المشهور جداً عند الناس، تجده عندما ينقل عن أبي طالب المكي في قوت القلوب وعن المحاسبي وعن أمثالهما، تجد الاختلاف، لكن شيخ الإسلام تجد الأمانة والدقة في النقل، ثم بعد أن ينقل القول إن كان فيه وجه صواب، فإنه يأتي به ويفصل في المسألة تفصيلاً وافياً، ومن أعجب الأدلة في ذلك رده على الرافضي صاحب كتاب منهاج الكرامة، فتجد شيخ الإسلام في منهاج السنة يأتي بكلام الرافضي وشبهته ثم إن كان فيه وجه حق ذكره وأثبته، فلا ينكر قولاً مطلقاً، فقد يذكر الرافضي أشياء ثابتة وصحيحة في فضائل علي رضي الله عنه، فتجد شيخ الإسلام يثبت ما ثبت عنده من فضائل علي رضي الله تعالى عنه، إلا أنه يقابلها بما ثبت من فضائل أبي بكر ويبين الدلالة منها على أفضليته على علي رضي الله عنهما وهكذا.
    حتى إن الرافضي لما تعرض للكرامات قال: إن من فضائل علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب على منبر الكوفة وإذا بثعبان يأتي إلى المنبر ثم يكلمه ثم يفتيه وهذا من ملوك الجن، وكان علي يفتي الجن والإنس، قال: فهذا دليل على أنه أولى بالخلافة. وهنا يجيب شيخ الإسلام رحمة الله عليه ويقول: وهذا من غرائب استدلالات الرافضة، ومن الجهل بمقام علي رضي الله تعالى عنه، فمقام علي رضي الله عنه أعلى وأرفع من أن يستدل عليه بهذا، قال: فإن هذا يحصل لمن هو دون علي بكثير، فمن العلماء من يأتيهم الجن ويسألونهم فيجيبهم.
    ولو رأيتم كيف أن ابن حزم رحمه الله شن هجوماً شديداً على الأشاعرة وكفر علماءهم: الأشعري والباقلاني وأبا جعفر السمناني ؛ فيأتي شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان يرد على الأشاعرة كثيراً، وهم الذين آذوه وفعلوا به ما فعلوا، فيأتي فيقول: إن ابن حزم في أبواب الإيمان والقدر خير من المنتسبين إلى الأشعري، ولكنّ المنتسبين إلى الأشعري خير منه في باب الصفات، وهذا الواقع، فإن ابن حزم أنكر عليهم وكفرهم عندما قالوا: إن الإيمان هو مجرد ما في القلب من: التصديق والمعرفة؛ فقال ابن حزم : قال جهم وأبو الحسن الأشعري وفلان...) فـابن حزم وضعهم مع جهم دفعة واحدة على ما بينهم من فرق، ومع أن الفرق قد لا يؤثر كثيراً لكن لا ينبغي أن نجعلهم مع بعض.
    أما في باب الصفات فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن ابن حزم في باب الصفات أقرب إلى القرامطة وإلى المتفلسفة، وكذلك الأشاعرة خير من ابن حزم في باب تفضيل الصحابة لأن الأشاعرة في التفضيل مثل أهل السنة، فأفضل الصحابة عندهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأما ابن حزم فأفضل الصحابة عنده هم أمهات المؤمنين؛ لأنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
    والمقصود من هذا ضرورة الإنصاف والعدل، وقد ذكر رحمه الله أن بعض أهل الأهواء لا يجدون من يعدل بينهم إلا أهل السنة والجماعة، حتى لو اختلف بعض أهل الأهواء مع بعضهم، فالذي يقدر على العدل بينهم أهل السنة، فهم أعدل الفرق مع الفرق، وهم أرحم الناس بالناس؛ لأنهم لا ينتقمون لأنفسهم، يجادلون ولكن بالتي هي أحسن، ويدفعون الشبهة بالحجة، ولكن من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومما صح عن السلف الصالح، فلا يتعصبون لرأي ولا لبشر.
  2. الرفق في التعامل والجدال مع طالبي الحق

    إن من كان طالباً للحق من أي فئة.. من أي فرقة.. من أي دين.. يجب أن يُرفق به حتى يتبين له الحق، -مثلاً- لما قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بسبب أسر أخته، قدم والصليب معلق على صدره؛ ليظهر تمسكه بدينه، فأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم وأحسن وفادته، فلما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ))[التوبة:31] قال عدي : ما عبدناهم، قال: أليسوا يحلون لكم الحرام ويحرمون عليكم الحلال فتتبعوهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم} وهذا معروف عند النصارى إلى الآن، فالبابا في روما يحرم الطلاق، ويحرم الختان وهو مذكور في التوراة، ويحل الميتة وهي محرمة في التوراة.. إلخ فما كان من عدي بعد ذلك إلا أن أسلم وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم، قائلاً: {أمط عنك هذا الوثن} أي: الصليب. وهكذا ناظر النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران، كما أمره ربه سبحانه وتعالى في القرآن، حتى إن أحدهم أخذ ينشد ويرتجز وهو على ناقته:
    إليك تغدو قلقا وضينها            مخالفاً دين النصارى دينها
    فهذا الرجل: أسلم وآمن بالله سبحانه وتعالى لما عرف الحق، فطالب الحق كائناً من كان -ولو كان يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً- نترفق به ونحسن إليه، حتى نوضح له الحق، أما المعاند فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة ونبي الملحمة، ونحن أرحم الناس بالشعوب، فإذا عاندت وأبت وأصرت على محادة الله ورسوله، ولم تخضع لأحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم أو احتقرت ذلك، ولم تحرم ما حرم، وتحل ما أحل بعد قيام الحجة؛ فإننا نؤدبها بالسيف، بأقسى ما يمكن من العقوبة، ولذلك قال المصنف رحمه الله: "وليس إذا أخطأ يقال: إنه كافر؛ قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بكفر من تركها".